فتح سعيد عينيه على ضوء النهار يأتيه متسللا من خلف الستارة التي تغطى نافذة حجرته .. تثاءب ليطرد ما بقى من آثار النوم داخله .. ارتفع بجزعه قليلا وأسنده على وسادة صغيرة خلفه .. جالت عيناه في أنحاء الغرفة وبدا كأنه يراها لأول مرة .. توقفت عيناه على ساعة الحائط .. الساعة تشير إلى الثامنة .. الموعد المعتاد الذي يستيقظ فيه منذ سنوات عديدة لم يعد قادرا على إحصائها .. انحرفت عيناه قليلا عن الساعة لتستقر على بعض الخطوط التي طبعها الزمن على طلاء الحائط القديم .. غاصت عيناه في الخطوط فرآها تتحرك .. أو خيل له ذلك .. الخيوط فعلا تتحرك .. هكذا حدث نفسه .. تتشابك .. تلتف حول بعضها البعض .. تحاول رسم شيء ما .. ما هذا الشيء .. فرك عيناه لعل الرؤية تصبح أكثر وضوحا .. تكامل الرسم وبدت اللوحة واضحة .. إنها فراشة .. نعم فراشة وها هي الألوان قد بدأت في العمل على جسم الفراشة وجناحاها لتحولها إلى مخلوق رائع تثير رؤيته في النفس نشوة وتملأ حركته الكون بالإبداع .. بدت بوادر المخاض على الحائط تمهيدا لولادة هذا المخلوق الجميل .. بدأت الفراشة في الحركة والاستعداد للانسلاخ من حضن حائطها .. سعيد يتابع المشهد الحائطي مشدوها والدهشة قد ألجمت لسانه وعقله أيضا فأصبح غير قادر حتى عن مناجاة نفسه بما يحدث من معجزة الخلق على الحائط .. انفصل المولود تماما عن رحم أمه الحائطية وطارت الفراشة محلقة في أرجاء الغرفة وعينا سعيد تتابعها .. اقتربت الفراشة من وجهه وحامت حول عينيه كأنها تداعبهما بألوانها المفرطة في روعة التناسق .. ألوان بدت مضيئة بذاتها ..
أفاق سعيد من دهشته قليلا ليناجى نفسه قائلا : قد تكون هذه الفراشة نفحة من السماء تحيى عيناي ببعض من ضوء الجنة بعد ان اغتصبت خفافيش الظلام ضوء الأرض .. فتناسق الألوان البديع الذي يميز هذه الفراشة لا يمكن أن يكون من جمال الأرض .. فقد شارف الجمال في الأرض على الزوال بعد أن دهمته أقدام الفساد في كل مكانسمع سعيد صوت ناعم جميل يتهادى إلى أذنيه من مكان قريب في الغرفة : صباح الخير
بدت تعبيرات الدهشة وقد كست وجهه وهو يجيب : من الذي يتكلم ؟
جاءه الصوت بنفس الرقة وقد أضيفت إليها شيء من الدلال : أنا الفراشة .. صباح الخير يا سعيد
نغمات صوتها دغدغت مشاعره فاستسلم وأغلق باب عقله الذي يسأل كيف حدثت هذه المعجزة وأجابها : صباح الخير
عادت الفراشة للتحليق بعيدا عن وجهه وهى تردد : ما أجمل الحرية
استفزته سعادتها فسألها : هل أنتي سعيدة بوجودك هنا ؟
أجابته ونبرة السعادة لم تفارق صوتها : نعم .. كل ما حولي يمنحني سعادة لم أعهدها من قبل .. كون فسيح احلق فيه بحرية لا تحدها حدود .. ضياء ينعكس على كل ما أراه فيمهره بختم التألق والجمال .. ونسيم رقيق يتسلل داخلي فتشع روحي بعبير يعبق عطره أنحائي ..
رد سعيد وقد علت مسحة من الحزن وجهه وصوته : أنتي تقولين هذا لأنك فراشة .. تحملك جناحاك إلى كل مكان بسهولة ويسر .. لا يتسلط عليك صاحب سلطة فينتزع حريتك ويحتكر طعامك ويلوث ماءك وهواءك
تجيبه وقد تبدل صوتها ليستمد بعض الحزن من صوته : أنت لا تشعر بما يحيطك من نعيم .. لو عانيت ما عانيته أنا قبل ولادتي من جديد لما قلت هذا .. أنا كنت حبيسة ذلك الحائط .. أعيش في سجن مظلم بلغ من الضيق مبلغا لا يسمح حتى بحركة جناحاي .. حائط لا أتنفس فيه إلا الغبار ولا يدخل جوفي منه إلا الحشرات والهوام
يجيبها سعيد وقد هم بمغادرة فراشه : ومن قال لكي أن الحياة في هذا الكون الذي يلفنا بأكفان الموت القريب ليس ببعيد عن حياتك في حائطك التعيس ؟ .. تعالى معي لتلقى نظرة من نافذتي هذه ..
اتجه سعيد إلى نافذة غرفته التي ترتفع عن الشارع بارتفاع الطابق الرابع عشرة الذي تقع شقته فيه .. النافذة تطل على شارع من شوارع القاهرة الرئيسية التي تعج بزحام السيارات والبشر ليل نهار .. رفع الستائر التي تغطى النافذة وفتحها فإذا بضجيج يصم الآذان قد اقتحم الغرفة وكأنه عزف نشاز لأوركسترا قد أصاب عازفيه الجنون ..
اقتربت الفراشة من النافذة وحاول سعيد تمييز صوتها الجميل الممزوج بضجيج الشارع القبيح وهى تقول : ما هذه الأصوات ؟ أهي الحرب ؟
يجيبها وقد ارتفع صوته لتستطيع سماعه : أنها الفوضى يا صديقتي .. وهى ما يؤدى إلى الزحام .. وفى الزحام لا يستطيع الناس الحركة بأقدامهم فيتحركون بأيديهم وأصواتهم
تتأمل الشارع وتسأله في صوت تملكته الدهشة : و لماذا لا يبدو الشارع واضحا ؟ اهو ضباب أم شيء ما أصاب عيناي ؟
فيجيبها بابتسامة : عيناك بخير يا صغيرتي وهذا ليس ضباب بل هو ما يسمى بالسحابة السوداء .. وهى صفة تتصف بها بلادنا عن سائر بلاد الدنيا .. فالعالم يستنشق هواء ونحن نستنشق دخان .. هذا قليل من كثير .. تعالى معي لكي تشاهدي بعضا من سمات الكون البديع الذي أسعدك الحظ بالولادة فيه
يتجه سعيد إلى جهاز التلفاز الذي يحتل أحد أركان غرفته والفراشة تتابعه بنظرة شوق لما سوف يفعل .. يفتح التلفاز على أحد القنوات الإخبارية .. تطل من القناة صورة قاتمة تتفحص مجموعة من الجثث ملقاة على قارعة الطريق والسيارات تسير في نهر الطريق بانسيابية طبيعية وأناس يمرون بجوار القتلى ولا يعيرونهم التفاتا
يأتي صوت الفراشة في برآه وعفوية : أكيد هذا فيلم سينما عن أحد الأوبئة التي اجتاحت العالم منذ سنوات
يجيبها سعيد : لا يا عزيزتي .. هذه بقعة من عالمك الجميل تسمى العراق .. هذه القطعة من الأرض سرقها احد لصوص كوننا الرائع .. ولكي يتفرغ اللص لجمع المسروقات ولا يزعجه أحد فقد زرع الفتنة بين الإخوة أصحاب الأرض فراحوا يقتتلون فيما بينهم حتى ضاقت أرضهم برمم القتلى وفاضت أنهارهم بدماء المخدوعين
تجيبه الفراشة وقد خيم الحزن على صوتها حتى كاد يختنق : أهناك بشر يمكن أن يحمل كل هذا الشر ؟
أجابها بصوت بدا وقد أعتاد معايشة شرور العالم ولم تعد تستفزه : هذا مثال فقط من الشر الذي نسج أكفانه في كل بقاع الكون ليغتصب ويسرق ويشيع الفساد ويكبل الحريات ويهدر الكرامة ويسحق بأقدامه رؤؤس حفنة قليلة من البشر مازالوا يحلمون بالكون الرائع الذي تتحدثين عنه يا فراشتي الجميلة
التفت إلى حيث كانت الفراشة تحلق قبل أن يجيبها فلم يجدها .. تلفت في أرجاء الغرفة وعلامات التعجب ترتسم على محياه .. تعلق بصره فجأة على الحائط بجوار الساعة حيث توجد خطوط الطلاء فوجد الفراشة وقد التصقت بالحائط لتعود لمجرد رسم على الحائط بلا ألوان .. يتأمل الحائط وقد استبدلت علامات التعجب على وجهه بالدهشة وإذا بخطوط الرسم التي تكون الفراشة تتحلل شيء فشيء لكي ترتد كما كانت .. شقوق في طلاء الحائط ..

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق